شما أن انتهى خطاب الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصرالله في الذكرى الثانية لتحريرالجرود، حتى بدأ العدّ العكسي للردّ المرتقب من المقاومة على الاعتداء الإسرائيلي الذي استهدف الضاحية الجنوبية وعناصر من الحزب في سوريا، ثم أعقبه هجوم على مواقع لـ«الجبهة الشعبية- القيادة العامة» في قوسايا البقاعية، بالترافق مع ظاهرة الهجمات على مواقع لـ«الحشد الشعبي» في العراق.
لعلّ الجانب الاسرائيلي هو اكثر مَن يستعجل حصول الرد، لأنّ بقاء قواته ومستوطنيه في حال استنفار وترقب في انتظار سيناريو مجهول، يكاد يكون اصعب من الضربة بحد ذاتها. وغالب الظن، انّ نصرالله أراد أن يستنزف الكيان الإسرائيلي «نفسياً»، أطول فترة ممكنة، عبر استدراجه الى «حرب أعصاب» قد تمتد ساعات او اياماً، من خلال ترك توقيت العملية المضادة غامضاً، وكذلك طابعها، مع التأكيد أنها حتمية وآتية لا محالة.
تعرف قيادة الاحتلال جيداً انّ نصرالله ليس من النوع الذي يستخدم قنابل صوتية او تهديدات استهلاكية، بل إنّ صدقيته هي أحد ابرز اسلحته على امتداد مراحل المواجهة بين الجانبين، وبالتالي فإنّ لدى الاسرائيليين قناعة، كتلك التي لدى جمهور المقاومة، في انّ الضربة الانتقامية أصبحت منذ خطاب «السيد» الاخير قدراً محتوماً يستحيل تفاديه.
وحتمية الضربة نابعة من كون «حزب الله» لا يستطيع أن يتغاضى عن الخلل الفادح الذي لحق بمنظومة توازن الردع بعد خرق الطائرتين المسيّرتين «القبّة الأمنية» للضاحية وقصف مقرّ للحزب في عقربا السورية، خصوصاً انّ إنجاز هذا التوازن تطلّب أثماناً واستغرق وقتاً، وبالتالي فإنّ نصرالله لا يمكنه أن يتسامح مع أيّ عبث بقواعد الاشتباك التي حيكت خيطاً خيطاً.
وهذه المرة، لا مجال لأيّ اجتهاد في تعريف أو توصيف ما جرى، إذ إنّ الاعتداء الاسرائيلي الذي استهدف العمق اللبناني كان مكشوفاً وواضحاً، ولا يمكن حتى للمحايد تبريره أو التخفيف من وطأته، الامر الذي عكسته ردود الفعل المندِّدة بالخرق النافر من قبل معظم الاتجاهات السياسية، بمَا فيها تلك المعارضة لسلوك الحزب، وإن يكن نمط الرد هو موضع تباين بين اللبنانيين.
ويبدو موقف «حزب الله» قوياً في مواجهة الاختبار الجديد، كونه «معتدى عليه» من دون التباس، سواء في عقر داره ام في العمق السوري، وبالتالي فهو يعتبر أنه يملك كل الحق والمشروعيّة للرد على التجاوز الإسرائيلي للخط الأحمر، خصوصاً انّ الدولة اللبنانية غير قادرة لاعتبارات عدة على التصدي لهذه المسؤولية، وأقصى ما تستطيع فعله هو رفع شكوى الى مجلس الامن الدولي.
والارجح، انّ ردّ المقاومة سيكون حازماً وموضعياً في الوقت نفسه، بمعنى أنه سيأتي مدروس المقادير، ومتلائماً مع طبيعة الاعتداء الاسرائيلي المستجد، بحيث يوصل الرسالة القاطعة بأنّ تغيير قواعد الاشتباك ممنوع، إنما من دون أن يقود الى اندلاع حرب شاملة، بل المطلوب وفق استراتيجية الحزب لجم خطر العدوان عبر إعادة «تكبيل» يدَي القيادة الاسرائيلية، عملاً بالقاعدة التي أكدها نصرالله في خطابه ما قبل الاخير وفحواها انّ محور المقاومة يريد منع الحرب وليس استعجالها.
لكن ما تجدر الاشارة اليه في هذا السياق هو انّ ترسيم حدود الاحتمالات المستقبلية يتوقف الى حدّ كبير على ردّ الفعل الإسرائيلي اللاحق، فإما أن «تبتلع» تل أبيب العملية المتوقعة على اساس واحدة بواحدة، وإما أن تتهوّر وتندفع نحو خطوات غير محسوبة قد تؤدّي الى تدحرج الأحداث في اتجاه مواجهة واسعة، علماً انّ هناك مَن يفترض انّ بنيامين نتنياهو الذي يستعد لخوض الانتخابات الاسرائيلية قد لا تكون له مصلحة الآن في قلب الطاولة كلياً والإفلات من قانون جاذبية الصراع.
وقرار الحزب بالرد حُسم بعد مرور وقت قصير على سقوط الطائرتين المسيّرتين في الضاحية وانكشاف البصمات الاسرائيلية عليهما. من اللحظات الاولى للحدث، أدار الحزب التفاصيل الميدانية بدقة، فيما ظلّ كبار مسؤوليه يتابعون تجميع الوقائع وتحليلها حتى ساعات الصباح الباكر، وعلى رأسهم نصرالله الذي كانت تصله التقارير لحظة بلحظة، الى جانب تواصله المباشر مع المعنيين في المقاومة.
للوهلة الاولى، جرى البحث في إصدار بيان فجراً عن وحدة «العلاقات الإعلامية» في الحزب يشرح ما حصل، إلّا أنه تقرّر بعد التشاور صرف النظر عن البيان، في اعتبار انّ «السيد» سيُطلّ لاحقاً في احتفال تحرير الجرود، وبالتالي سيتولّى تظهير الموقف المناسب بعد أن تكون قد اكتملت صورة الوقائع والاستهدافات.
ونحو السادسة صباحاً (أمس الاول) سُجل اتصال بين مخابرات الجيش وأحد مسؤولي الحزب، في إطار تبادل المعلومات والتنسيق المشترَك، توطئة لإمساك الجيش بمسرح الحادثة وملفها، خصوصاً لناحيتي إجراء المسح الميداني والتحقيقات المطلوبة.
في هذا الوقت، كان مسؤول «العلاقات الإعلامية» في «حزب الله» محمد عفيف يُطلق موقفاً مدروساً ومنسّقاً مع القيادة، بدا كأنه نوع من التمهيد للرسالة القوية والحازمة التي سيوجّهها نصرالله بعد الظهر الى الاسرائيلي.
استخدم عفيف في تصريحاته، وعن سابق تصوّر وتصميم، عبارة سقوط الطائرتين الإسرائيليتين في الضاحية، متعمّداً عدمَ إعطاء ايّ اشارة الى احتمال إسقاطهما، ذلك انّ صيغة «السقوط»، والتي تعكس الواقع، تعني انّ الضاحية والحزب هما في موقع المعتدى عليهما بالكامل مع ما يمنحه ذلك للمقاومة من خيارات واسعة للرّد المشروع دفاعاً عن النفس وتثبيتاً لتوازن الردع، في حين انّ صيغة «الإسقاط» تفتح الباب امام التأويلات، وقد يستخدمها البعض لاتّهام الحزب بأنه هو الذي افتعل المواجهة مع اسرائيل وانّ عليه تحمل المسؤولية عن التبعات اللاحقة، حتى لو كانت الطائرتان المعاديتان في موضع خرق السيادة اللبنانية.
ليس خافياً، انّ «حزب الله» يملك خبرة واسعة في «تقنيات» المواجهة مع العدوّ الإسرائيلي على كل المستويات، وهو سيوظفها في مهمته الجديدة والمتمثلة في منع تل ابيب من محاولة فرض قواعد اشتباك جديدة عليه في لبنان وسوريا.